كانت الشمس في ذلك الوقت تصب سيلاً من شعاعها الذهبي المتوهج على بطاح مكة وجبالها السوداء والرياح تلفح الوجوه بحرارة الصيف المُتّقدة كان يقف على جبل عرفات بلباس الإحرام وعرفات تنشح بالبياض وكأنه القطن المندوف ....
أرسل بصره إلى الأفق ، وهو يتأمل روعة المشهد والتناغم يحيط بالحياة من كل مكان ، ربّ واحد تتجه إليه هذه القلوب بآمالها وآلامها ، نداءٌ واحد ، هو نداء الإيمان الذي لا يختلف ، وإن تعددت الألسنة ، وتباينت اللغات ، غاية واحدة ، تصطف لها هذه الجموع في هذا اليوم المشهود ، مكان واحد يضم هذا الشتات من آفاق الدنيا ساعتها .. ثار في ذاكرته سؤال لا يفارقه .. عن حال الأمة ، التي تكالبت عليها الأمم وتداعت كما تتداعى الأكلة على قصعتها ، لم لا تتحقق هذه الوحدة في واقع الحياة ، وهنا سالت على خده دمعة حب ووفاء لهذه الأمة التي تناوشتها السهام من كل مكان .
وفي غمرة هذا الحزن كان للأمل شمعة لم تنظف في فؤاده المتوهج فإن هذه الأمة التي تجتمع في كل عام على هذا الصعيد ، سيكون وقوفها وقوداً يدفعها إلى الأمام ، ووقفة تحاسب فيها النفس ، وتستجمع القوى ، لتكون الوحدة والتوحيد شعاراً وواقعاً وطريقاً للنصر بإذن الله تعالى .
فقد بلغ منها الجهد مبلغاً عظيماً ومزقتها الأيدي الحاقدة كل ممزق ، لأنها مزقت ستار عزتها وقطعت حبل وحدتها ، فأصبحت تعيش المأساة في أشدّ ألوانها وأمرّ أشكالها .
أخذ يترنم ببعض قصائده ودموعه تبلل لحيته السوداء .
نبكي فليس لنا إلا البكاء فما
أضحى لنا اليوم بين الناس من شانِ
نبكي بكاءً يهزُّ النفس يشعلها
كي يطرد النوم عنه كلّ وسنانِ
نبكي جراحاتنا في كل ناحيةٍ
ولوعةً عمَّت القاصي مع الداني
نبكي فلسطين ام نبكي على جثثٍ
تمزَّقت إرباً في أرض بلقان
ببِتنَا يُمزَّقنا جهراً بلا وجلٍ
في الأرض عبّاد خنزيرٍ وصلبانِ
نبكي عل الأهل في السوفيت كم ذُبِحوا
في أذربيجان أو في طاجكستانِ
نبكي المذابح في ألبانيا علناً
وفرقة فتكت فتكاً بأفغانِ
نبكي على العرض في كشمير دَنَّسَهُ
أخِسّـةٌ أهل أصنامٍ وأوثانٍ
نبكي من الحرب في الصومال ثائِرةً
وبدّدت وِدَّ أصحاب وجيرانِ
نبكي على الجَنَّة الخضراء تَحرقُها
أيدي اليهود على أرجاء لبنانِ
نبكي لشعب العراق الحرََ محنته
وما يلاقيه من جوع وحرمان
نبكي منائرنا أمسى يحطمها
في الهند عبّاد أبقارٍ وثيرانِ
مجازرٌ ومآسِ أورثت كمداً
قلبي وتأبى لذيذ الغمض أجفاني
أبيت جنبي بجافي مضجعي ألماً
كأنما في فؤادي سُمُّ ثعبانِ
يا للفضيحة كم نمشي مُنكَّسـةُ
رؤوسنا اليوم في ذلٍ وإذعانِ
باتَت نسور بني الإسلام خانعةً
وبُدّلت حينما نامت بغربانِ
يا أمتي أمّلي في الله واتصلي
بحبله واحذري من كلِ فتّانِ
يا أمةً باتحاد الصف رفعتها
أما التفرُّق يصلاها بنيران
والله لا عِزةٌ ترجى ولا أملٌ
بفرقةٍ واختلافات وأضغان
تشبّني أمتي في كل داعيةٍ
وعالم ناصح بالحقّ رباني
الخير في عودةِ لله صادقةٍ
الخير في سُنّة مثلى وقرآنِ
نهر الهداية لا زالت منابعهُ
تجلو الهموم وتروي صدر هَيمان
والله ما خاب من يرضى به حكماً
سلطانه يتحدى كلَ سلطانِ
هنا يهيج البكاء وتكاد وجنتاه أن تحترق من حرارة الدموع حيث يرى هذه الآلاف المؤلفة ذات الرب الواحد والدين الواحد ، واللباس الواحد ، ولكن القلوب لا تزال متباينة مختلفة متفرقة ، عندها كان حاج يقف بجواره دنا منه وسلّم عليه وأعطاه كأساً من ماء زمزم ، قائلاً له ادع الله أن ينصر هذه الأمة .