البريج ـ وكالة قدس نت للأنباءلا زالت غزة تروي حكاية سكانها المحاصرين منذ ما يزيد عن أربعة أعوام ،فتتعدد أوجه هذه الحكاية ، من قاسي إلى أشد قسوة ، ومن أسوأ إلى أشد سوء ً، فكل يوم تتكرر نفس الصورة وترتسم نفس المعاناة والمأساة ، وإن أختلفت ملامحها في النهاية تبقى الصورة واحدة ، تتكللها مزيداً من التردي والسوء ، دون أن تجد أي مغيث إلا قلة تحاول بأقصى ما تملك بأن تعيل بعض من يستحقون الإعالة والمساعدة .. مراسل "
وكالة قدس نت للأنباء " هاني الشاعر ينقل معاناة أسرة من مرض لعين لازال يلاحقها وهو مرض السرطان ..
مسلسل انتقال المرض
لم يترك ربيع القباني 45 عاماً والأب لأسرة مكونة من 10 أشخاص أكبرهم لا يتعدى الـ 12عاماً وأصغرهم لا يتعدى الـ 6أشهر ، من سكان " بلوك1 " بمخيم البريج وسط قطاع غزة ،باب عيادة طبيب أو جمعية خيرية أو مشفى إلا وطرقه ، أملاً بأن يجد من ينقذ عائلته التي تفشى مرض السرطان بين أفرادها جميعاً دون أن يستثني أحد ، حتى قضى هذا المرض على اثنين من أبنائه في مقتبل عمرهم وهم ( ثائر 8أعوام ـ ومحمد 6أعوام ) ..!!
بين أزقة شوارع مخيم البريج الضيقة ، وداخل بيت لا يتعدى الـ " 70متراً " يفتقد لأدنى مقومات الحياة المعيشية ، حيث ينال التشقق من جدرانه القديمة رويداً رويداً ، وتتسرب برودة وماء الشتاء لداخله عبر نوافذه الخشبية المنهكة وسقفه المبني من الزينكو ، شاء الله عز وجل للمواطن القباني بأن يُرزق بأطفال يحملون نفس المرض ، وما يلبث أن يولد طفل من أطفاله إلا وتبدأ بعض البقع الحمراء الدائرية الشكل بالانتشار بشكل كبير على سطح جلودهم تزامناً مع ارتفاع لدرجة الحرارة بشكل متكرر ،علاوة على ترجيعهم لمعظم الطعام الذي تناولوه .
الضحية الأولى
قبل حوالي الـ 20عاماً رُزق القباني بطفل أسماه ثائر ، وبعد عدة أشهر من ولادته أصيب بأزمة حادة في الرئتين ، أدت بموجبها لتدهور وضعه الصحي ، في الوقت الذي عجز فيه الأطباء على تشخيص حالته ومعرفة سبب الأزمة ، ومكث على أسرة المشافي بغزة لعدة أسابيع في صراع ما بين المرض والموت ، ليتمكن من الحصول على تحويلة لأحد المشافي الإسرائيلية ، وتبين حسب الفحوصات بأنه مصاب بمرض السرطان ، ولم يلبث بعد أن يصل حتى تدهور وضعه الصحي للغاية ، ووافته المنية بتاريخ 13/9/ 1997 ، عن عمر يناهز الـ " 8أعوام " أي قبل حوالي ثلاثة عشر عاماً .
وبعد وفاة ثائر أنجب القباني طفله الثاني سعيد ، وفور ولادته لم يتقبل الأكل حيث يقوم بترجيع كل ما يأكله فوراً ، وتضاربت تشخيصات الأطباء لحالته أنازاك ، فمنهم من قال بأن رأسه يوجد به ماء ، وأخر قال بأنه يعاني من أزمة صدرية ولا يوجد برأسه ماء ،لكن في النهاية الأطباء اكتشفوا بأنه يحمل مرض السرطان وستتماثل صحته بالشفاء بعد "سبعة عشر عاماً " ، ويواصل تناول بعض الأدوية منذ ذلك الحين حتى الآن ، ولم يكن باستطاعته الآن التعرض للهواء أو الغبار لتسببها له باختناق وضيق بالتنفس ، مما يعرض حياته للخطر، وقد يصل الأمر لتهديد حياته بالموت ، ويحتاج سعيد لبخاخة دواء لأنفه بـ 17 شيكل في حالة تعرض للغبار أو الهواء لكي تعيد له التنفس بشكل طبيعي ..
عوض الله القباني بطفل ثالث أسماه ثائر على غرار الابن البكر الذي وافته المنية نتيجة المرض كما أسلفنا سابقاً ، لكن ثائر لم يختلف كثيراً عن حالته شقيقة المتوفي ، حيث حمل نفس المرض ومكث يتلقى العلاج لمدة عامين ويتنقل بين العديد من الأطباء حتى بدأت صحته تتماثل بالشفاء ، ويبلغ من العمر الآن " أحد عشر عاماً " ويتمتع بصحة جيدة ..
معجزة
واصل مرض السرطان شق طريقة ليفتك بالعائلة وسط عجز الأطباء على وضع حد له وتشخيص سبب إنتقاله في صفوفها ، حتى تبين بأن مصعب الطفل الرابع للعائلة مصاب بسرطان في الغدد الأنفية ، وبدأت علامات المرض تظهر عليه في أعقاب إصابته بحمة شوكيه حادة بعد ولادته بـ " 40يوم " ، حيث تم إدخاله بغرفة خاصة بمشفى شهداء الأقصى ، ولم يسمح لأحد بزيارته سوى والديه لمدة تزيد عن شهر ، وبعد مرور الشهر إعتقد الأطباء بأنه قد فارق الحياة بعد توقف نبضات قلبه لعدة ثواني ، حيث تم إبلاغ ذويه بأنه توفى ، وأثناء محاولة الأطباء تكفينه بكفن الموت ، عاودت دقات قلبه لتعمل من جديد وبشكل طبيعي ، ومكث بعدها مدة خمسة أيام يعيش على التنفس الصناعي ، حتى أعلن الأطباء عن شفائه من الحمى الشوكية التي ألمت به ، ولم تنته معاناة مصعب لهذا الحد حتى خلفت له الحمى أثار بالعين الشمال التي أصبحت " حوله " ، إضافة إلى عدم إستطاعته إستيعاب أي شيء يقال له أو يسمعه ..!! ، علاوة على توقف نموه حيث أنه أشبه بالقزم الآن ..!!
أنجب القباني بعد ذلك الطفلة إسلام مطلع عام الـ " 2001 " وتبلغ من العمر الآن" تسعة أعوام " ، حاملة نفس المرض ولا زالت حتى اليوم تعاني منه ، وتتعاطى بعض العقاقير الطبية المؤقتة ، بانتظار مستقبلها المجهول الذي حطمه هذا المرض .
أفنان الطفلة السادسة بالعائلة والبالغة من العمر " ستة أعوام" ، كتب لها عز وجل بأن تكون الطفلة الوحيدة التي لم تحمل المرض من بين أشقائها الثمانية ..
الضحية رقم 2
لم يتوقف تفشي المرض عند هذا الحد لكنه طال محمد الطفل السابع الذي أنجب بعد أفنان ، حيث بدأت بعض علامات المرض بالظهور عليه متمثلة في " انتفاخ بالقدمين والرأس الذي وصل لحد حجم رأس الرجل ..!! " ، وفي أعقاب ذلك توجه به والده لمشفى شهداء الأقصى وسط قطاع بعد تفاقم حالته بأحد الأيام ليلاً ، ومكث عدة أيام بالمشفى ليتم تحويله لمشفى الشفاء بغزة لتدهور وضعه الصحي، وتم إجراء عمليه له وتبين وجود هواء محتبس داخل الرئتين ، وتمكن الأطباء من إخراجه ، ولم يستطع بعد الأطباء تشخيص المرض الذي ألم به ، وتقرر بأن يبقى بالعناية المكثفة قرابة الشهر ، ولم يلبث أن يخرج بأربعة أيام حتى عاد مجدداً لغرفة العناية المكثفة ليمكث أسبوع إضافي حتى بدأ وضعه الصحي بالتحسن تدريجياً ،وعاد القباني بطفله محمد للبيت دون جدوى وحل جذري لمرضه ، وبقي قرابة ستة أشهر يتنقل بين المشافي ويتلقى بعض الأدوية والعقاقير الطبية المسكنة أكثر ما هي شافية للمرض .
لم يسأم والد الطفل في مواجهة حالة الجمود التي تخيم على وضع طفله الصحي ، حيث شق طريقه في البحث عن مخرج لإنقاذ طفله الذي يصارع الموت ويتألم وهو ينظر له ولا يستطيع فعل شيء له ، ومن هنا كان السبيل الأمثل لإنقاذ طفله هو البحث عن تحويله مرضية يتمكن بموجبها من السفر للعلاج بالخارج ، ظناً منه بأنه الباب الوحيد الذي يعلق عليه أمله لكي يستطيع من خلاله إنقاذ طفله ، وبعد مشقة وعناء بين المسئولين والمختصين ، تمكن من الحصول على تحويله لمشفى" تل شومير الإسرائيلي " ، وما أن وصل المشفى حتى تفاجئ بأن الأطباء يتحدثوا لوالده بأن طفلك وضعه صعب للغاية وعلى وشك بأن يفارق الحياة ، وأدخل فور وصوله لغرفة العناية المكثفة لمدة شهر ونصف حتى تبين بأنه مصاب بمرض السرطان بالدم يعرف بـ " نكيمية " ، ولم يكن أمام الأطباء المتواجدين بالمشفى سوى إعطائه دواء كيماوي كما هو معروف ، ويستخدم هذا الدواء للحالة المستعصية ، وعاد محمد برفقة والده لغزة ، وكل اقل من شهر يعاود لتلقي العلاج بالمشافى الإسرائيلية ولمدة " خمسة سنوات " على هذا الحال دون جدوى أو أي تحسن على حالته الصحية ..!! ، حتى تفشى المرض بعظامه وبعض الغدد بجسده .
وأمام هذا الوضع المتردي الذي وصل له ، تمكن الأطباء الإسرائيليين في أخر زيارة لمحمد لمشفى " تل شومير " ، من إجراء عملية جراحية بالرأس لاستئصال المرض استمرت لأكثر من " ثمانية ساعات " تكللت بالنجاح ، وفي بداية شهر ديسمبر للعام 2008 تقرر لمحمد العودة بشهر فبراير 2009، لكنه لم يتمكن بسبب تردي الأوضاع الأمنية والمعيشية بالقطاع ، في أعقاب الحرب على غزة التي راح ضحيتها أكثر من 1400 شهيد ، وفي صبيحة يوم الـ " الخامس عشر" من شهر مارس ، كان محمد على موعد من الموت الذي طالما تمناه بعد رحلة المرض المريرة على مدار أكثر من خمسة سنوات ، بعدما اق من النوم صباحاً ليصرخ بصوت عالي ومن ثم يرتخي جسده ، ليعلن عن وفاته بعدما تم وصوله للمشفى ...!!!
طفل مصاب بالقلب
ويحاول المواطن القباني بأن يعوض أطفاله الذي توفوا من خلال إنجابه لمزيد من الأطفال حسب اعتقاده ، حتى شاء الله مؤخراً أن يمنحه حميد الطفل الثامن ، والمصاب بمرض القلب ، حيث بينت الفحوصات الطبية بمستشفى النصر للأطفال بغزة ، بوجود ثقب بقلبه إضافة إلى وجود تسديد بأحد الشريان ، والتي تسببت بتوقف ضخ الدم بهذا الشريان .
لم يكن بوسع أبو ثائر أمام هذه الابتلاء الرباني أن يتمكن من توفير العلاج اللازم لأطفاله ، حيث يضطر لإستدانه الدواء من الصيدلية ، بسبب تدني راتبه الذي لا يتعدى الـ 1000شيكل " ما يفاقم من معاناته أكثر فأكثر ، ولا يستطيع في بعض الأحيان شراء طعام لأطفاله ، تضاف إلى مأساة الديون مأساة البيت القديم الذي يعيش بداخله ، حيث يعود ملكيته لاشقائه الذين يطالبونه بالخروج منه كل يوم ..!! ، ويحاول مراراً وتكراراً أن يمنعهم من أخذه منهم ، وبملامح التجاعيد التي ارتسمت على وجهة مبكراً، يعيش أبو ثائر " بين مطرقة أشقائه الذين يطالبونه بالخروج من البيت ، وسندان تفشي السرطان بين صفوف عائلته وعجزه على معالجتهم ..!! "
أنا لا أطلب المستحيل ، بهذه الكلمات انهى ابو ثائر حديثه ، موضحا ان الأمل في وجه الله بأن يشفى أطفاله ، وسط تجاهل كافة المعنيين في تقديم أي مساعده له ، واكتفى بالمطالبة بتكفل أطفاله المرضى ومساعدته على عمل تحويلة لهم للخارج ، وإعالته على توفير بيت محترم يستقر به وعائلته التي تعاني الأمرين بفعل تفاقم وضعها المعيشي يوماً بعد يوماً ...