بعيداً عن قلم الراوي وومضات المربّي؛ هناك موقع على خط الخطر، السماء ملبّدة بالغيوم، والأرض ملأى بمناقع السيل، والمنازل في القرية مهددة بالسقوط. عنوان مكتوب في الذاكرة، وذكرى منقوشة في القلب، سمّاها الكبار ( سنة الغرقة )! كيف لا؛ وقد اجتاحت المنطقة أمطار غزيرة، بما فيها تلك القرية الوادعة النائمة في أحضان التلال الرملية. عام ( 1376هـ ) وكأي مطر في بدايته ينتشي الأهالي, ويحدثون أنفسهم بالخصب والماء والمرعى. ومع استمراريته وكثافته ترتفع وتيرة المخاوف، وهاهي بيوت القرية الطينية المتواضعة وسط هذا الطوفان الهادر تبدو أشبه بمربعات كرتونية، ينغمر أسُها بالماء، وتمطر سقوفها طيناً ووحلاً، وتتساقط أطرافها، ويُهرع ساكنوها إلى الأماكن المرتفعة الجرداء بصحبة أهليهم وصبيانهم؛ طلباً للنجاة.
هاهي ( جَرَدَةُ فاطمة ) كذا تسمّى تلك المنطقة الخالية من الأبنية وسط القطين، تغصّ بالشُّرْع المنصوبة على ضفاف السيول، في قلب القرية السابحة في الماء! وماذا عسى أن يصنع شراع واهٍ أمام زخات المطر وعصفات الريح ؟! ولكنها محاولة الإنسان؛ ليتصبّر ويتعبّر حتى تنجلي. ومن بين النسوة الهاجعات في الليل البارد المطير كانت تلك الفتاة الثلاثينية المثقلة بالحمل، يحيط بها صبيتها الصغار، وأمواج المياه يعلوها موج الطلق العاتي, الذي ضربها في هذه الليلة وجاء معه بالسهاد والألم والأنين المكتوم بين الضلوع.
إِذَا مَا تَكوَّرتَ في دَاخِلِي | | وَأثقلتَ جسماً خفيفاً خَلِي |
وَصرتَ تلَمْلِمُ روحَ الحياةِ | | وَلمْ يَبْقَ شَيءٌ سِوى الْآهِ لِي |
عَرَفْتُ بِأَنِّي نَدِيُم السُّهَادِ | | وَلَيْلِي طَوِيلٌ وَلَنْ يَنْجَلِي |
ذَبُلْتُ ذُبُولَ غُصُونِ الْخَرِيفِ | | وَمَنْ تَكُ مِثْلِي وَلَمْ تَذْبُلِ |
هدهدت صبيتها الصغار بصبر حتى ناموا.. لكن كيف لها أن تلد هنا بين الأشرعة التي هي أشبه بالعراء؟!
ساعة الصفر أخذتها إلى ( قابلة ) القرية التي اعتادت أن تولّد النساء بيديها -الأداة الأولى منذ أيام حواء- فمضت إليها بخطى مثقلة، لتتم الولادة في البيت المهدد بالسقوط، فهذا أرحم بها من أن يسمع الرجال زفراتها وأنّاتها الموجوعة.
مرت الدقائق كأثقل ما تكون، واقترب خروج الطفل من ظلماته الثلاث، دفعة من إيمان، وبقية من صبر، وإسناد معنوي من القابلة، ودعم حسي خفيف..
وهبطت أقدام الجنين أولاً قبل رأسه، خلافاً للمعتاد..! يجب أن نظل واقفين ما ترددت الروح بين جنباتنا!
ولن نستطيع ذلك إن أفلتت أيدينا من حبل الله ! فرحة الأم بالخلاص وسلامة المولود لا يعدلها شيء؛ إنها هبة الحياة من الله الرحيم الكريم.
لا يزال هناك في الشراع صغار هاجعون, يحوم حولهم قلب الأم، وقلبها دليلها؛ لقد استيقظ (عبد الله) ابن الخامسة, وبدأ يبحث عن أمه، القلب الصغير يبحث عن القلب الكبير، وها هي قد عادت للحظتها بمولود تحمله بين ذراعيها ليستأثر باهتمامها بعض الوقت, لقد أصبح بالنسبة لإخوته الصغار بمثابة دمية، أما بالنسبة للأبوين فهو استمرار للوجود، وسبب جديد للسعادة، وبذرة لاحتضان المستقبل.
أهو ( سلمان ) كما يقول أبوه, تيمّناً بسلمان الفارسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم, الذي كان الإمام يتلو سيرته وخبره في المسجد؟
أم (سليمان) كما تقوله الأم، جرياً على العادة في تسمية المولود باسم جدِّه، فقد كان هذا اسم أبيها؟ أياً كان فقد مضت القسمة عادلة، فكانت الشهرة للاسم الأول، وغالب الأوراق الثبوتية للثاني! سبقه أخَوَان، وأختان. ولحقه أخ وأخت.
وكبرى الأخوات تزوجت في السابعة عشرة من عمرها, يوم كان هو في الثالثة، وكم عانى وتألّم لفراقها. يذكر أنها أصيبت بمرض في عينها شخّصته أمُّه بأنه (أم ذيل)، وعلاجه الكي، والحجبة (الحمية) أربعين يوماً لا تأكل إلا طعاماً خاصاً تصنعه أمها من الحنطة, وحده فقط كان يشاركها ذلك الطعام، ويستمتع بحنانها قبل طعامها الذي تؤثره به, ولم يفُتْهُ أن يوظف هذه الحادثة المرسومة الراسخة، ليدعو على من حَرَمَهُ من أخته الحبيبة بالزواج والانتقال إلى قرية أخرى بأن تصيبه (أم زيل)، وأن يقعد أربعين يوماً في الحجبة!
دون أن يدرك من المقصود بهذه الدعوة البريئة! وهو ينتظر عودتها كل يوم، حتى أيقن أنها لن تعود وقتما يشاء, وبدأ يفهم حركة الانتقال تلك عندما لحظ الزيارات الدورية بين الفتاة وأهلها.. وشاهد دموع الأم، وسمع قصائدها الوجدانية تشتكي ألم الفراق، وتحن إلى أيام القرب والوصال..
إنه يرقب مجيئها بحزن وتطلّع، وحين يراها يسرع الخطى ليرتمي في حضنها مسائلاً: كم ستبقى ؟! وإذْ لم يرقه الجواب.. فالاحتجاج أن يطلق صوتاً أشبه بصفارة الإنذار، أن يبكي ويبكي بأقصى ما يستطيع.
وذات يوم أبصر صديقتها التي تشبهها في القوام وتكبرها في السن على مقربة من الباب؛ فهرول إليها ضاحكاً فرحاً يحيط ساقيها بذراعيه، وهو يظنها أخته، ويهتف بلثغة ظاهرة (جئت يا حُمَيِّلَة !). ست سنوات قضاها في محضنه الأول، قبل أن يدخل المدرسة، عند الآخرين كانت حافلة بالعفوية، وعنده كانت حافلة بالإثارة والأحداث الكبار، وكأن المتنبّي عناه حين يقول:
وتكبر في عين (الصغير) صغارها | | وتصغر في عين العظيم العظائم ! |
طفولة بريئة، تتعلم بصمت وتستمتع بالحياة دون تردد؛ فالألعاب البريئة الساذجة، والمعابثات الصغيرة المتكررة هي أنسه وأنس لذاته، وحولها تدور تطلعاتهم ومطامحهم. ذاك الرجل المسنّ يبيع المفرقعات، فليشتر منه واحدة لكن كيف وهو لا يطيق أن يفرقعها؟ ولا أن يسمع صوتها؟
إذاً فليوكل إلى أحد أصدقائه أن يقوم بالمهمة الأولى، بينما أَوْكَلَ إلى آخر أن يسد أذنيه! لتصبح تلك طرفة ساخرة يتندر بها عليه إخوته كلما تشاجروا، فضلاً عن لثغته الظاهرة بحرف السين، التي ربما سالت دموعه لأنّ أحداً حاكاه وهو ينطقها؛ فاعتبر هذا مساساً بشخصيته!
أتراه لو كان يدري أن نصف قدرات الإنسان العقلية تتكون في تلك المرحلة المبكرة، وقبل دخول المدرسة، أكان يتصومع ويتقوقع على كل معين ينهل منه؟ أو كانت تلك الروح ترفرف على جداول المعرفة؟ وتلك المصابيح الخافتة بداخله تتوهج نوراً؟ وتلك الهمّة المحدودة تنتفض وتربو؟
ما له ولهذا! أليس التعلّم والتكوّن العقلي يتحقق بمعايشة الحياة الصافية، في أجوائها الهادئة المستقرة؟ أليس من الحكمة أن تنطلق الطفولة على سجيّتها تحت سمع الوالدين وبصرهم وتوجيههم؟
أليس الإبداع يبدأ من جرأة الصغار على التفكير والسؤال والتصرف دون أن تدمّر قواهم الغضة لغة الأمر والنهي والتحقير والتسفيه؟
إن مدرسة الحياة هي أعظم جامعة يتلقّى فيها المنتمون أفضل الدروس، لكن بعد أن يدخلوا الاختبار! ذلكم الطفل الرضيع, دخل الحياة من باب لم يكن يترقبه عنده إلا رجل ينظر من صائر الباب بوجل؛ ليطمئن بالسلامة والعافية على زوجه التي ولدت لتوّها. فيا ترى من سينتظره في أبواب الحياة الأخرى؟!
{
وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً }