يحيى شاب عاقل! طيب القلب, حسن الخلقة و الخلق, رجل يتفجر رجولة, وحيوية, يعرفه كل من يعرفه بذلك! هادئ الطباع, لا صخَّاب في الأسواق ولا جعظري جواظ, وليس بالأكول, ولا الجموع المنوع... لكنه جاء يوماً في حالة كئيبة, تعلو مُحياه سحابة مظلمة, وألفاظه تخرج من فمه متناثرة غير مرتبة فقلت له:
- ما لك! أصابك سهمٌ أم بُليتَ بنظرةٍ؟ فما هذه إلا سجية من رُمي؟!
- قال: ما لي؟ وقعتُ في أزمة في هذا الزمن *** !
- قلت: لعلك راجعت إدارة الأحوال المدنية لإضافة مولودك الصغير, وطلبوا منك شاهدي عدل واثنين يزكيانهما وتصديقاً من عمدة البلد وتقسم لهم بالله العظيم على كتابه الكريم أن هذا المولود لك لا لأحدٍ غيرك ولدته أمه في المستشفى الفلاني في الساعة الفلانية بشهادة الشهود! عجبي.. وأن تلك الشهادة التي تكرم بها المستشفى لإثبات واقعة الولادة صادقة حقيقية غير مزورة, فلم يصدقوك! لأنهم يحسبون أنَّا نأتي بالأطفال من الشوارع لنتبنَّاهم لأننا نتمتع بفائض اقتصادي هائل لا ندري أين وكيف ولمن نصرفه!
أو لعلك طلبت تجديد بطاقتك الشخصية فطلبوا منك الإنتظار قرابة ستة أشهر حتى يبعثوها إلى أصل الملف في مدينتك التي استخرجتها منها في سالف الأزمان؟؛ فأصبحت اليوم تمشي بين الناس بلا هوية ولا بطاقة أحوال أي أنك (بدون) كما في أختنا الكويت.
أو لعلك طلبت تعديل مهنتك من (متسبب) إلى (موظف) وأعددت جميع ما يحتاجون من قَسمٍ على المصحف! وشهادة شاهدين, وصورتين شمسية حديثة من إنتاج هذا العام, وبعثت بصور الوثائق, واستمارة الطلب مزخرفة بتوقيعكم الفاضل, وتوقيعات الشهود, مع أحد الزملاء ليخدمك فيها؛ نظراً لانشغالك الشديد.. فحلفوا يميناً غموساً ألاَّ يقبلوها إلاَّ بحضور صاحبها ولو لم يأت إلاَّ في عام 1430هـ!
- قال: لا.. لم أذهب إلى إدارة الأحوال فالحديث عنها ذو شجون, وهناك أحوال وأهوال! ولديهم جهاز مظلوم حقاً اسمه (كمبيوتر) يتقاضى راتباً شهرياً ولا يعمل!
- قلت: إذن.. لعلك ابتُليت بشخص في شركة الإتصالات يبعث لك كل شهر فاتورة على عنوانك لهاتفٍ لا تعرف متى استخرجته, ولا تذكر له رقماً, ولم تلمس أزرارَه يداك الناعمتان ولم تُدخله بيتك.. والغريب في الأمر أن صورة من بطاقتك الشخصية وجدتَها تُزين ذلك الملف, وتوقيعكم الكريم في أسفل استمارة الطلب.
أو لعلك.. تتلقى كل شهر رسوماً لهاتفك الجوال الذي قضى نحبه منذ زمن بعيد؛ تُسمى رسوم الخدمة والتي لا تتوقف إلاَّ إذا توقفت عجلة الحياة وورث الله الأرض ومن عليها!.
أو ربما أردت السفر إلى خارج البلاد لإكمال دراستك العليا, ففوجئت بهم في المطار يشهرون بك على رؤوس الخلائق ويمنعونك من السفر حتى تقوم بتسديد فاتورة (بيجر) كان في حوزتك قبل الحرب العالمية الأولى, فتشاغلت عنه بالتكنولوجيا الحديثة, وهم لم يذكِّروك بشأنه منذ سنوات وآمادٍ بعيدة.. وتكرم مشكوراً (كمبيوتر) الجوازات بالقبض عليك متلبساً بالجرم العظيم..
- قال: لا...
- قلت: اصدقني القول:-
هل راجعت أحد مكاتب الاستقدام الأمينة, فاستقدمت خادمة, فاكتشفت أنها مريضة وأثبتَّ ذلك بتقرير طبي من أكبر المستشفيات الحكومية المعترف بها عالمياً.. فأردت إرجاع الخادمة؛ فلم يقبلها منك المكتب واتهمك بتزوير التقرير؟ ورماها في الشارع؛ فعثرت عليها دورية الشرطة فتكرمت مشكورة بإيصالها إلى مكتب مكافحة التسول لسجنها هناك على ذمة التحقيق؛ وتقدمت أنت بشكوى إلى مكتب العمل والعمال فلم ينصفوك, وإلى (...........) مكتب الأحوال الشخصية فأحالوا أوراقك إلى المحكمة لتمكث هناك أحقاباً تحت رحمة المواعيد البعيدة الأمد حتى تنقضي الثلاثة الأشهر المقررة لتجربة الخادمات؛ فتعود البيت بلا خُفيّ حُنين؛ فتخسر الخادمة ومبلغاً قدره (5600) ريال؛ ثم تقوم بترحيلها على كيسك الخاص... فلجأت أخيراً إلى تملق المتنفذين في الشرطة ليقنعوا صاحب الفخامة مدير مكتب الاستقدام الموقر- الذي تعاملت معه وراجعته شهراً ونصف دون فائدة- ليقنعوه بوجوب العودة إلى إنسانيته وآدميته والتنازل عن دعوى تزوير التقرير, ويقوم بتسفير الخادمة على حسابه الخاص لمرضها كما ينص عليه عقدهم المحترم الذي كل بنوده تصب في مصلحتهم فقط أما المواطن ففي ستين داهية! (والله يعوض عليك) كفافاً لا لك ولا عليك...
- قال: يا أخي.. لم يقع لي هذا.. و لا شيء منه..
- قلت: عرفتُ الآن..
هل نجح ابنك من الثانوية بتقدير ممتاز ومعدل 95,75% فوقف مثلما وقف حمار الشيخ رحمه الله (أعني الشيخ) في العقبة؛ فلم يُقبل في جامعة ولا كلية ولا مطعم ولا بقالة! لأنه لا يحمل بيده ورقة أخرى تسند تلك الشهادة.. بها توقيع يكاد يخرق الورقة من غلظته؛ لا يراه أحد إلاَّ قال:... أصبحنا وأصبح الملك لله!، حتى تمنيت أن ابنك لم ينجح ولم يحصل على هذا التقدير؟!...
- قال: يا أخي أنت اليوم في حالة مضحكة.. لم يحدث هذا ولا....
- قاطعته: قلت: إذن... المسألة أنك تخرجت أنت من الجامعة, جامعة (الإ…...................................) على قدر اسمها! بتقدير (جيد) لأنك أخفقت لوفاة والدك في أول فصل ولم يعذروك فلزمك العار حتى تخرجت بهذا التقدير.. فعطشت في طريق عودتك إلى منزلك, وجفَّ ريقك, ولم تكن تحمل معك محفظتك وبها نقودك, ومررت على بقالة وقدمت شهادتك للبائع.. تزخرفها كتابة بخط جميل يقول (بكالوريوس) فلم تسقك شربة ماء!...
فأردت أن تتقدم لنيل درجة الماجستير؛ فأصبحت أضحوكة في أروقة الجامعة...
ثم أردت أن تحفظ ماء وجهك؛ وتقدمت لوزارة المعارف لتكون معلماً محترماً.. فظنوك من مواليد عام 800هـ! وأتيت بمخطوطة في يدك تحتاج إلى من يفك رموزها.. ويحققها ويقابلها بأصلها.. ليعلم ما هي!, فخرجت وأنت مهموم مغموم.. فخطر على بالك أن ترفعها لتعطى رتبة على الكتف شعارها نجمة أو اثنتان وظننتَ أنها لا تزال تحتفظ بقيمتها التي كنت تذكرها قبل عقد من الزمان.. فقبلوها منك.. على شرط أن تلبس بدلة عسكرية نظيفة من كل شيء إلاَّ من حزام يشد وسطك لا غنى عنه!..
- قال: أمرك غريب.. مشكلتي.. اسمع بارك الله فيك سأقصها عليك..